أزمة غير مسبوقة تحبس أنفاس العالم: انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب الأوكرانية
في تطور مثير للقلق لسوق الغذاء العالمي، انسحبت روسيا مؤخرًا - في منتصف يوليو 2023 - من اتفاقية تصدير الحبوب، تأتي الخطوة الروسية بعد أن شهدت أسعار المواد الغذائية في الأسواق العالمية زيادة حادة تجاوزت نسبة 40% في أعقاب الصراع الدائر في أوكرانيا، حيث أن فطرفي النزاع يعدان مساهمين رئيسيين في إمدادات الغذاء العالمية، فالدولتين تعدان من أهم مُصدّري الحبوب كالقمح والشعير والذرة وزيت عباد الشمس والأعلاف والأسمدة وغيرها من المنتجات الضرورية.
ويشير القرار الروسي في أبسط أشكاله إلى أزمة حابسة لأنفاس العالم قد تؤدي إلى تعميق نزيف الاقتصاد العالمي المستمر منذ جائحة كورونا وقبلها، وبات يتطلب بالضرورة إعادة تقييم سياسات الأمن الغذائي الدولية.
اتفاقية تصدير الحبوب وتهديد شريان الحياة في النظام العالمي
بعد بدء الحرب الروسية في فبراير من العام السابق، تم وضع اتفاقية الحبوب الأوكرانية-الروسية عبر البحر الأسود – وهو المنفذ البحري الوحيد لأوكرانيا لتصدير الحبوب إلى العالم - وسط امتناع دول شرق الاتحاد الأوروبي للتصدير من خلالها، فحجة امتناع دول مثل بولندا مبنية على أن تصدير أوكرانيا للحبوب عبرها يضر بمصالحها ويقوض من إنتاجها المحلي، ويؤثر على سوق محاصيلها جَرّاء الفوائض وتكدّسات الصوامع نتيجة الاختناقات اللوجيستية.
يذكر بأن الاتفاقية قد سهلت شحن من 40 مليون طن من الحبوب منذ توقيعها في يوليو 2022.
الاتفاق المكسور
يتوقف قرار روسيا بالانسحاب من اتفاقية الحبوب على عدة قضايا رئيسية. تتركز مطالب روسيا وفق صفقة الحبوب على إعادة ربط البنك الزراعي الروسي مع نظام الدفع الدولي "سويفت"، واستئناف توريد الآلات الزراعية وقطع الغيار اللازمة للزراعة الروسية، ورفع الحظر الغربي عن لوجستيات النقل والتأمين، وإعادة إحياء خط أنابيب الأمونيا بين مدينتي تولياتي الروسية وأوديسا الأوكرانية، وإلغاء تجميد أصول الشركات الروسية وحسابات الشركات العاملة في مجال تصدير المواد الغذائية والأسمدة.
ومن بين الأسباب الدافعة لروسيا للانسحاب من اتفاقية الحبوب هو استخدام أوكرانيا الممر البحري الآمن المخصص لنقل الحبوب لتنفيذ هجمات ضدها بطائرات مسيّرة وهجمات أخرى مختلفة. كما أنه وبحسب الرواية الروسية، هو عدم الالتزام بنصوص الاتفاقية والتي تنص على وصول القمح الأوكراني للدول الفقيرة والنامية بل وصوله فقط وبشكل حصري للدول الغنية الغربية في الاتحاد الأوروبي. وتشير الاحصاءات بأن 43% من الحبوب الأوكرانية المشحونة بحرياً نقلت إلى أوروبا، بينما 17% منها فقط وجد طريقه للدول المتوسطة و2.5% منها ذهب للدول الفقيرة في إفريقيا التي تعتمد على إنتاج البلدين بالأسعار المخفضة.
التأثير على سوق الغذاء العالمي
إنهاء روسيا لاتفاقية تصدير الحبوب ليست مجرد قضية جيوسياسية، فمن المرجح أن تتردد أصداء تداعياتها عبر سوق الغذاء العالمي، وتؤثر على الدول البعيدة عن بؤرة هذا الصراع. فتعطل الأنشطة التصديرية سيتسبب حتماً في اضطرابات كبيرة في الأسواق الدولية ستحتاج المنطقة العربية، بما في ذلك منطقة الخليج العربي وشمال إفريقيا، والتي تعد واحدة من أكبر مستوردي الذرة والقمح والأعلاف الروسية-الأوكرانية، إلى البحث عن مصادر بديلة للإمداد.
وعلى الرغم من أن الدول العربية قد نوعت مصادر وارداتها لتجنب تطورات الأزمة المحتملة، إلا أنه من المتوقع أن يكون لقرار روسيا بوقف الاتفاقية تأثيرات كبيرة لا يمكن إنكارها على الأمن الغذائي في كامل المنطقة العربية، ولكن جميع السيناريوهات تشير إلى أن المنطقة العربية ستواجه ارتفاعات في أسعار المواد الغذائية فضلاً عن نقص في نسب الإمداد.
كما أن أسعار الغذاء العالمية، التي تضخمت بالفعل بسبب الصراع المستمر، قد تشهد مزيدًا من التصعيد، وسيؤدي إلى زيادة تكلفة المعيشة وتفاقم انعدام الأمن الغذائي، لا سيما في الدول النامية، وسيزداد الوضع تعقيدًا بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي الشرقي التي تعتمد بشكل كبير على الحبوب الأوكرانية، وقد يؤدي عدم الرغبة في السماح لأوكرانيا بتصدير الحبوب عبر أراضيها إلى عدم استقرار السوق المحلية والتأثير على اقتصاداتها الزراعية.
كما ويحمل إنهاء هذه الاتفاقية تداعيات كبيرة على المعونات الغذائية العالمية، مع انخفاض أسعار الحبوب الأوكرانية المتاحة للدول الفقيرة والنامية، مما قد يؤدي إلى تفاقم الجوع في المناطق التي تعاني بالفعل من انعدام الأمن الغذائي. ومن ثم، فإن تأثير انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب بعيد المدى، قد يؤثر على الأمن الغذائي الإقليمي وبالتتالي على أسعار السلع الدولية وكارثة اقتصادية قادمة.
التطلع إلى الأمام: الحاجة إلى التدخلات الدبلوماسية ومراجعات السياسة
ستتوقف الجهود الدولية الجارية لإعادة اتفاقية الحبوب على إمكانية الوصول لحلول ترضي أطراف النزاع خاصة في جزئية المطالب الروسية. ويحتاج صانعو السياسات في جميع أنحاء العالم إلى العمل بشكل استباقي للتخفيف من هذه آثار مثل هذه الخطوات التصعيدية والعمل على تشكيل شراكات تجارية وخطط استثمارية جديدة لضمان الاستقرار في السلاسل العالمية لإمدادات الغذاء.
وتستمر المفاوضات، يحتاج صانعو السياسات إلى تقييم الآثار طويلة المدى لمثل هذه الصراعات الجيوسياسية على الأمن الغذائي العالمي، فضمان تنويع مصادر استيراد الأغذية، والاستثمار في القطاعات الزراعية المحلية، وصياغة اتفاقيات دولية قوية لمواجهة مثل هذه الأزمات يمكن أن تكون استراتيجيات محتملة للتخفيف من آثار مثل هذه النزاعات، ولكنها ستبقى حلول وقتية.
أزمة اتفاقية الحبوب الروسية-الأوكرانية تؤكد على الروابط المعقدة بين الجغرافيا السياسية والأمن الغذائي، فهي جرس إنذار مبكر للتذكير بواقعية الحاجة إلى الحكمة لتجاوز الخلافات والتخطيط الاستراتيجي والتعاون الدولي لحماية سلاسل الإمدادات الغذائية في العالم من حالة عدم اليقين السائدة والمستقبلية.