أسيوط تودّع شهبندر تجار ديروط.. عبدالعزيز تغيان يرحل بعد 50 عامًا من الكفاح الشريف

في مشهد يختلط فيه الحزن بالفخر، ودّعت ليلة أمس الأحد، التاسع من نوفمبر عام 2025، مدينة ديروط بمحافظة أسيوط، أحد أبرز أبنائها وأحد أعلامها في ميدان التجارة، المهندس الحاج عبدالعزيز عبدالله أحمد تغيان، الرجل الذي لُقّب على مدار نصف قرن بـ«شهبندر تجار ديروط»، وأحد أفراد عائلة تجارية ضاربة الجذور في التاريخ لأكثر من 250 عامًا من الكفاح الشريف في عالم المال والتجارة.
رحل الرجل الهادئ الوقور الذي عاش عمره بين الموازين والمكاييل والأمانة والإيمان، رحل بعد أن كتب سطور مجده بعرقه وصبره، تاركًا إرثًا لا يندثر من القيم والمبادئ، ومنهجًا في العمل والضمير يدرّس لأجيال التجار من بعده.
من المهندس إلى التاجر الصدوق.. رحلة بدأها من تحت الصفر
وُلد الحاج عبدالعزيز تغيان في الثالث والعشرين من يوليو عام 1952 بمدينة ديروط، في بيت تربى على رائحة القماش والذهب وموازين التجارة.
كان شغوفًا بالعلم منذ صغره، يحلم بأن يصبح صيدليًّا، إلا أن القدر اختار له طريقًا آخر. فبعد ظروف حالت دون تحقيق حلمه في الثانوية العامة، رفض والده فكرة إعادة السنة قائلاً له بحكمة الأجيال: «أنا بعد الأيام عشان تخلص تعليمك وتشتغل معايا.. لسه هستنى سنة كمان؟!»
التحق الشاب عبدالعزيز بكلية الزراعة، وتخرج منها، ثم عمل في الإدارة الزراعية، لكنه لم يجد في الوظيفة طموحه ولا ذاته. فاستقال مبكرًا، عائدًا إلى إرث أجداده في التجارة، مؤمنًا بأن الشرف في الكد والسعي، وأن المجد يُنتزع بالعرق لا بالوظائف.
يقول عن تلك اللحظة: «نشأتي كانت نشأة تجارية خالصة، فأنا ابن عائلة عاشت على التجارة لأكثر من 250 عامًا، وأسماء مثل جمعة وحسانين وتغيان كانت تكتب تاريخًا من الكفاح نحتًا في الصخر».
شجرة آل تغيان.. تاريخ من المجد التجاري في ديروط
منذ قرنين ونصف، كانت أسواق ديروط وملوي والقوصية تشهد حضور رجال آل تغيان، الذين حملوا بضائعهم على الجمال وقطعوا الطرق الوعرة من قرية لأخرى لعرض الأقمشة، قبل أن تعرف ديروط مفهوم "الحوانيت".
بدأ الجد الكبير تغيان أول محل للعائلة في شارع القيسارية، ليكون نواة إمبراطورية تجارية حمل رايتها الأبناء والأحفاد: أحمد، عبدالله، عباس، محمود، ومحمد، وكلٌ منهم أسّس محله الخاص.
في البداية كانت تجارتهم في الأقمشة — المني فاتورة — قبل أن يقرر العم محمد فتح فرع لتجارة الذهب، خطوة بدت مغامرة آنذاك، لكنها تحولت إلى قصة نجاح مدوّية استمرت لأكثر من 50 عامًا.
عن تلك النقلة يقول الحاج عبدالعزيز: «كنا متخوفين من تجارة الذهب، لكن بفضل الله نجحنا فيها نجاحًا عظيمًا، واستمررنا فيها حتى اليوم، وكل ما وصلنا إليه كان ببركة رضا أبوي وأمي ودعائهم لي».
بين الأقمشة والذهب.. فلسفة التاجر الصدوق
لم يكن الحاج عبدالعزيز يرى في التجارة مجرد بيع وشراء، بل عبادة ومسؤولية أمام الله.
كان يردد دائمًا أن تجارة المني فاتورة "أقيم وأكسب من تجارة الذهب"، لأن الأولى حلالها بيّن، أما الثانية فلا تخلو من الشبهات إلا لمن اتقى الله.
كان يشرح بفصاحته المألوفة:
> «اللي يشتري دهب قديم لازم يقول للي بعده، ده دهب قديم ويتحاسب على نص مصنعية الجديد، لكن للأسف مش الكل بيعمل كده. التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء، ومش شطارة إنك تضحك على زبون، الشطارة إنك تكسب احترامه قبل فلوسه».
كان هذا إيمانه الراسخ، وبها ربّى أبناءه وتلاميذه، فصار بيته مدرسة في الأخلاق قبل التجارة.
49 عامًا في تجارة الذهب.. من أول فاتورة إلى شهبندر ديروط
بدأ الحاج عبدالعزيز تجارة الذهب قبل نحو 49 عامًا.
يقول: «أول فاتورة احتفظت بيها كانت بيع حلق أطفال لرجل من عرب أبو كريم، وكنت فرحان كأني بعت كنز!»
اشترى محلًا في شارع الصاغة من عمه محمد، وكان يذهب يوميًا منذ الصباح حتى الليل، لا يجد من يقول له حتى “صباح الخير”.
كان السوق يضج بالحركة والباعة والزحام، لكنه ظل في بداياته وحيدًا بلا زبائن.
حينها قال جملته الشهيرة: «التاجر اللي مش عنده غيرة تجارية مش هينجح».
لكنها لم تكن غيرة حقد، بل غيرة تنافس وشرف.
عاد من الحج بعد أن دعا الله في الحرم أن يفتح له باب الرزق، فوجد الرزق يتدفق فعلاً.
بدأ العمل من جديد، ساعات تمتد إلى عشرين في اليوم، من القاهرة إلى ديروط، ومن الأسواق إلى الورش، حتى صار اسمه مرادفًا للأمانة والنجاح.
توسّع بأفقٍ محدود.. وحكمة في التجارة
كان يرى أن التوسع في التجارة لا يعني التشتت في المجالات. يقول دائمًا:
> «ادخل المجال اللي فاهم فيه، أو اتنين أو تلاتة بالكثير، بس ما تدخلش كار مش كارك».
وكان حريصًا أن يورث أبناءه الخبرة لا المال فقط.
حدّد لهم مجالات العمل في تجارة الذهب، الأقمشة، الصرافة (قبل إلغائها)، وتجارة الأدوية.
فأبناؤه اليوم بين الصيدلة والتجارة والقانون والتعليم، يرفعون راية العائلة كما ربّاهم.
أسرة عامرة بالعلم والعمل
رزق الحاج عبدالعزيز بثمانية أبناء وبنات:
حسن: صيدلي
أحمد البدوي، حسين، ومحمود: بكالوريوس تجارة
عيون: ليسانس حقوق
رانيا: صيدلانية
عبير: مدرسة
شيماء: حاصلة على الدكتوراه من جامعة أسيوط
أما الأحفاد، فبلغ عددهم 13 حفيدًا، يمثلون الجيل الرابع من هذه العائلة العريقة.
وكان دائمًا يوصيهم بقوله:
> «إياكم والغرور.. خليكوا متواضعين، راقبوا ربنا في رزقكم، والسمعة الطيبة أثمن من كنوز الدنيا، والنجاح محتاج كفاح مش كلام.»
مواقف لا تُنسى.. دروس من الحياة
من أبرز المواقف التي رواها الراحل أنه كان يبني عمارة بها صيدلية الأرقم، وحين سقط أحد العمال من الدور الخامس وتوفي، اكتشف أنه ابن أحد الزبائن الذين كانوا يرهقونه بالفصال.
يقول: «ساعتها بس افتكرت كلام أبويا: اللي تكره تشوف وشه النهارده، يوريك الزمان قفاه بكرة».
أما الموقف الأشد قسوة فكان حين اتُّهم ظلمًا في قضية مدبّرة من أعداء النجاح.
يحكي أنه مكث أربعة أشهر لا يعرف طعم النوم، حتى جاء يوم قرر فيه ألا يصلي العشاء حزنًا، ففتح التلفزيون فوجد الشيخ عبدالله شحاته يتحدث عن الظلم والصبر وكأنه يوجّه حديثه إليه.
يقول: «انهمرت في البكاء كالأطفال، ونمت وأنا مظلوم، وصحيت تاني يوم لاقيت الفرج، وفي المحكمة أخدت براءة، والناس كانت بتكبر في القاعة: الله أكبر الله أكبر.. شالوني على الأكتاف وأنا مش مصدق، ربنا كبير ولا يضيع حق مظلوم».
روتين يومي يبدأ بالقرآن وينتهي بالشكر
كان يبدأ يومه بصلاة الفجر وقراءة وِرده من القرآن، ثم دقائق من الاستغفار قبل أن ينغمس في عمله.
كان يقول:
> «أهم حاجة صلتك بربنا، اللي كاتبه ربنا ليك هيجيلك، بس خليك دايمًا صادق في سعيك.»
وكان يؤمن أن الحفاظ على النجاح أصعب من الوصول إليه، وأن التاجر اللي بينام مرتاح الضمير أغنى من اللي بيملك الذهب كله.
وصايا للتجار والأبناء
كان يردد دائمًا حكمته التي تلخص فلسفته في الحياة والتجارة:
«لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر.»
«مش شطارة إنك تغش الزبون، الشطارة إنك تكسب احترامه.»
«خاف ربنا في رزقك.. الحلال قليل لكنه دايم.»
«السمعة الطيبة عمرها أطول من أي محل أو رأس مال.»
رحيل يوجع القلب ويترك الأثر
برحيل المهندس الحاج عبدالعزيز تغيان، فقدت ديروط ومحافظة أسيوط أحد رموزها الصادقين في عالم التجارة، ورجلًا جمع بين التقوى والحكمة، بين المِكيال والضمير، بين الطموح والرضا.
رحل الرجل الذي علّم أبناء بلدته أن المجد لا يأتي إلا بالصبر، وأن النجاح لا يُشترى، بل يُكتسب بالعرق والإيمان.
رحم الله شهبندر تجار ديروط، وجزاه خير الجزاء عن مسيرة عامرة بالعطاء، وأسكنه فسيح جناته، وأبقى اسمه شاهدًا على أن التاجر الصدوق لا يموت، بل يخلّد في قلوب الناس وذكرياتهم.


جوجل نيوز
واتس اب