رئيس التحرير
محمود سعد الدين
NationalPostAuthority
الرئيسية حالا القائمة البحث
banquemisr

مظهر شاهين يكتب.. الشيخ زايد حكيم العرب الذي وحّد وطنًا وألهم أمة

الشيخ مظهر شاهين
الشيخ مظهر شاهين

حين يُذكر اسم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، تتدفق في القلب مشاعر الإجلال والامتنان، لا لرجلٍ حكم دولة فحسب، بل لقائدٍ اختصر في سيرته معنى الحكمة، وجسّد في أفعاله جوهر القيادة الراشدة.

زايد الذي وُلد في السادس من مايو عام 1918 بقصر الحصن في إمارة أبوظبي، نشأ في بيئة صحراوية قاسية، لكنها أنضجت فيه صفات الصبر والكرم والحكمة والشجاعة، فأصبح رجلًا من طراز نادر، يتقدّم بخطواته الواثقة وسط صحراء تموج بالتحديات.

لم يتلقَّ الشيخ زايد تعليمًا نظاميًا على النحو المعروف، لكنه تخرّج في مدرسة الحياة، وتشرّب القيم من مشايخ القبائل وعلماء الدين، فامتزج في شخصه الطابع البدوي الأصيل بالحكمة السياسية والبصيرة النافذة، حتى صار مرجعًا للحكماء، ورمزًا للأصالة والرؤية المستقبلية معًا.

وقد شاءت الأقدار أن أزور دولة الإمارات العربية المتحدة للمرة الأولى في حياتي خلال شهر رمضان من عام 2005، في بدايات عهد الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رحمه الله، بعد شهور قليلة من رحيل والده المؤسس الشيخ زايد، طيب الله ثراه. كانت المناسبة بالنسبة لي أكثر من مجرد زيارة، بل تجربة إنسانية ووطنية خالدة في الوجدان.

صادف وجودي هناك حلول الذكرى السنوية الأولى لوفاة الشيخ زايد، فحضرت فعالية إحياء ذكراه بالقرب من مرقده الطاهر، بجوار مسجد الشيخ زايد الكبير، الذي كان لا يزال آنذاك في مراحله النهائية من التشييد. لم يكن المسجد قد اكتمل بعد، لكنّ المكان امتلأ بخشوعٍ مهيب، وبحزنٍ ناطق في العيون والقلوب. كانت ملامح الجميع تتحدث عن رجلٍ لم يرحل من ذاكرة وطنه، بل بقي حيًّا في وجدان شعبه، كأن وفاته لم تكن سوى انتقال من الحياة إلى الخلود.

ذلك المشهد عبّر بصدق عن عمق العلاقة بين القائد وشعبه، وعن المكانة التي لم يفرضها منصب، بل رسّخها حبٌّ متبادل، وإخلاصٌ لا يُنسى. وعلى مدار شهرٍ كامل، تجولت في أماكن متعددة داخل الإمارات، من أبوظبي إلى دبي، ومن الشارقة إلى العين، وشاهدت بأمّ عيني كيف أن زايد لم يبنِ فقط دولةً قوية البنية، بل أسّس وطنًا متماسك الأركان، راقيًا في تعامله، متقدمًا في عمره السياسي، ومتجذرًا في حضوره الإنساني.

وحين نتحدث عن توحيد الإمارات، فإننا نتحدث عن ملحمة سياسية وتاريخية قادها الشيخ زايد بإرادة لا تلين. فعقب توليه حكم أبوظبي عام 1966، أدرك أن القوة لا تكون في النفط أو السلاح وحدهما، بل في الوحدة. ومن خلال حوارٍ شاق وصبور، وحكمةٍ جامعة، استطاع أن يوحّد سبع إمارات في كيان واحد، أُعلن عنه في الثاني من ديسمبر عام 1971، لتولد دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تحوّلت في غضون سنوات قليلة إلى واحدة من أنجح التجارب الوحدوية والتنموية في العالم العربي الحديث.

لم تكن الوحدة هدفًا سياسيًا فحسب، بل كانت مشروعًا حضاريًا متكاملًا، جعل من الإنسان محور التنمية، ومن العدالة أساس الحكم، ومن الهوية الأصيلة قاطرةً للنهضة. وكانت رؤية الشيخ زايد واضحة حين قال: “الثروة الحقيقية هي الإنسان، وليس المال.”

ومع ترسيخ قواعد الدولة داخليًا، التفت زايد إلى أمته الكبرى، فلم يتوانَ عن دعم القضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وقضية لبنان، والعراق، والكويت، وكل بلد عربي مسّه ضرر أو ظلم. لكنّ أبرز مواقفه التاريخية كانت مع مصر، التي أحبها وناصرها، فحين وقعت نكسة 1967، أعلن زايد مقولته الشهيرة: “النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي.”

وفي حرب أكتوبر 1973، كان من أوائل من دعم المجهود الحربي بكل سخاء، وشارك في قرار استخدام سلاح النفط للضغط على الدول الداعمة للعدوان، تأكيدًا على أن التضامن العربي لا يكون بالأقوال، بل بالفعل والموقف.

لقد لمست خلال زيارتي تلك، من خلال تعاملي مع المواطنين والمقيمين، كم هي العلاقة بين الشعبين المصري والإماراتي علاقة حبٍ ووئام، لا يشوبها تكلف، ولا تحكمها مصلحة. فالمصريون في الإمارات يشعرون أنهم في وطنهم، والإماراتيون لا يخفون محبتهم وتقديرهم لمصر ودورها ومكانتها، وهو انعكاسٌ طبيعي لرؤية زايد، الذي كان يعتبر مصر قلب العروبة وعمودها الفقري.

ولم يكن دعم زايد مقصورًا على السياسة، بل امتد إلى بناء الإنسان العربي، ونشر التعليم، والمساعدات الإنسانية، وتعمير الدول المتضررة، حتى صار اسمه مرتبطًا بالعطاء في كل قُطرٍ عربي وإسلامي، بل وفي كثير من دول العالم.

وكانت شخصيته فريدة في مزجها بين الحزم والرحمة، وبين الحكمة والشجاعة. رجلٌ قريب من الناس، لا يحجب نفسه عنهم، ولا يعيش في أبراجٍ معزولة، بل يشاركهم همومهم، ويتفقد أحوالهم، ويرى في خدمتهم واجبًا لا مَنّة. وقد أحبه الناس، لا لأنه حاكم، بل لأنه إنسان صادق، إذا وعد وفى، وإذا تحدث صدق، وإذا حكم عدل.

وقد نال الشيخ زايد تكريمًا دوليًا ومحليًا واسعًا، واعتُرف بدوره في التنمية والنهضة، والسلام والدبلوماسية، وتمّ منحه أوسمة دولية من مؤسسات عالمية، تقديرًا لإسهاماته في بناء نموذج دولة عصرية مستقرة، تحترم شعبها وتخدم أمتها.

وفي الثاني من نوفمبر عام 2004، رحل الشيخ زايد عن الدنيا، لكنه لم يرحل عن وجدان الأمة. بقي حاضرًا في قلوب أبناء وطنه، وفي ضمير الشعوب العربية، وفي صفحات التاريخ، كنموذجٍ للقائد الذي جعل من الحلم واقعًا، ومن الرمال وطنًا، ومن الدولة رسالة.

واليوم، وبعد أن مضى قرابة عقدين على رحيل حكيم العرب، فإن الوفاء لذكراه لا يكون بمجرد استحضار مآثره، بل في استلهام تجربته كقائدٍ أحب شعبه فبادله حبًا، وبنى وطنه فعلا شأنًا، وآمن بأمته فسعى لوحدتها.

ومن هنا، فإن النداء الصادق الذي يخرج من القلب إلى كل قائدٍ عربي هو:

سيروا على درب الشيخ زايد.

كونوا كما كان… قريبين من شعوبكم، أمناء على آمالهم، حريصين على كرامتهم، متمسكين بهويتهم، مؤمنين بوحدة الصف العربي، وداعمين لقضايا الأمة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، ومصر التي كانت عند زايد كما قال: “قلب الأمة، وإذا توقف القلب توقفت الحياة.”

فيا قادة العرب، إن أردتم العزة، فاعملوا لها كما عمل زايد.

وإن أردتم أن يذكركم التاريخ بخير، فاجعلوا من الحكم رسالة، لا سلطة؛ ومن الوطن أمانة، لا غنيمة؛ ومن الشعب شريكًا، لا تابعًا.

عندها فقط، نُعيد للأمة مجدها، وللعروبة هيبتها، ونكتب معًا صفحةً جديدةً يليق بها أن تحمل التوقيع النبيل:

“على نهج زايد…”

          
تم نسخ الرابط