مظهر شاهين يكتب: دروس من شخصية الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب… العالم الزاهد وحارس الوسطية

في زمنٍ عزَّت فيه القدوة، وتكاثرت فيه الضوضاء، وتراجعت فيه الكلمات الصادقة أمام لغة المصالح، يُطلّ الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، بثباتٍ في الموقف، ونقاءٍ في السريرة، وعمقٍ في الفهم، وقوةٍ في الحجة؛ حاملًا لواء الوسطية، وصائنًا ميراث الأزهر بعلمٍ وورع، ومواجهةً لتحديات العصر بحكمةٍ واتزان.
وُلد الإمام الطيب في السادس من يناير عام 1946م، بقرية القُرنة بمحافظة الأقصر، في صعيد مصر، لأسرة صوفية عريقة متجذّرة في العلم والدين، وهو ما أسهم في تكوين شخصية تجمع بين الصفاء الروحي والرصانة العلمية. التحق بالأزهر الشريف، وتدرّج في مراحله التعليمية حتى تخرّج في كلية أصول الدين، قسم العقيدة والفلسفة، عام 1969م. حصل على الماجستير في التخصص ذاته عام 1971، ثم نال درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف عام 1977، عن أطروحة تناولت الفلسفة الإسلامية.
لم يكن الإمام الطيب مجرد أستاذ جامعي يؤدي مهامًا أكاديمية، بل كان باحثًا مجتهدًا وعالمًا متأملًا، ارتقى في مدارج العلم والتدريس حتى تولّى عمادة كلية الدراسات الإسلامية بأسوان، ثم عمادة كلية أصول الدين بالقاهرة، فصار نائبًا لرئيس جامعة الأزهر، ثم رئيسًا لها عام 2002، وهو أعلى منصب أكاديمي في المؤسسة الأزهرية. وفي عام 2010، صدر القرار الجمهوري بتعيينه شيخًا للأزهر الشريف، ليصبح الإمام الثامن والأربعين في سلسلة شيوخ الأزهر عبر تاريخه العريق.
وإنه لَمِن نُدرة العلماء أن يبلغ هذا المقام الرفيع دون أن يتغيّر، أو يتخلّى عن صفائه وسمته. فقد ظل الإمام كما عرفه الناس: رجلًا زاهدًا، متواضعًا، كريم النفس، صادق الكلمة، صافي القلب، لا يعرف المواربة، ولا يرضى أن يساير على حساب دينه أو مبدئه.
فحياته اليومية تمضي ببساطة لا تختلف عن سلوك العلماء الأوائل، حيث يسكن في منزلٍ متواضع، ويتنقّل دون استعراض، ويُجالس طلاب العلم بعين الأب، ويُحادث الناس بلسان الحكمة. ولطالما أصرَّ على إلغاء مظاهر البروتوكول في اللقاءات، ورفض التصدّر المبالغ فيه، مؤكدًا أن رفعة العالِم في علمه، لا في مظهره.
ولم يكن الزهد والتواضع مجرد صفاتٍ شخصية، بل كانا منهجَ حياة. فقد روى بعض طلابه أنه، في أحد اللقاءات الخاصة، أصرَّ على تقديم الشاي بنفسه للضيوف، وقال مبتسمًا: “نحن هنا لخدمة طلاب العلم لا لاستقبالهم كمراجعين.” كما رفض، في أكثر من مناسبة، الإقامة في مساكن كبار المسؤولين، مفضِّلًا البقاء في بيته المتواضع، إيمانًا منه بأن هيبة الإمام في تواضعه، لا في عنوانه.
أما الصدق والثبات، فهما ركيزتان أصيلتان في شخصيته. فهو لا يتلوّن بالمواقف، ولا يتبدَّل بحسب المتغيّرات، ولا يساير الرأي العام على حساب المبادئ. وحين حاولت بعض الجهات الضغط عليه لإصدار فتاوى تتماشى مع هوًى سياسي، كان ردّه حازمًا: “الأزهر ليس وزارة، ولن يكون ذراعًا لأحد.” وكذلك حين رُوِّج لما سُمِّي بـ”زواج التجربة”، رفض الإمام هذه الدعوة، واعتبرها عبثًا بالشريعة، وإساءة لحرمة الأسرة، واستهانة بعقدٍ وصفه الله بأنه “ميثاق غليظ”.
وفي مواجهة التطرف والغلو، كان الإمام حاضرًا بحجته، واثقًا بعلمه، صامدًا بمنهجه، يردّ على دعاة التكفير، لا بانفعال، بل بميزان النص، وسعة الفهم، واتزان الفكر. لقد فنّد المفاهيم المغلوطة، وأعاد ضبط المصطلحات المتداولة، ورفض اختطاف الدين من قبل المتشددين أو المؤدلَجين، مؤكدًا أن الإسلام دين رحمة، وأن الجهاد دفاعٌ لا عدوان، وأن الخلافة ليست نظامًا مقدسًا، بل اجتهادًا بشريًّا تاريخيًّا.
ولم يقف الإمام عند حدود الدفاع عن الثوابت، بل انطلق في مسار الإصلاح والبناء، فأطلق مشروع تطوير شامل للأزهر الشريف، بدأه بتحديث المناهج التعليمية، وفتح نوافذ الحوار مع المؤسسات الفكرية والجامعات العالمية، وأشرف على توسعة المعاهد الأزهرية، ورفع كفاءة التأهيل الديني والدعوي للعلماء والطلاب، كما دعم بقوة دور مجمع البحوث الإسلامية، ومركز الأزهر العالمي للفتوى، وبيت العائلة المصرية، ومركز الترجمة.
وفي مواقفه تجاه غير المسلمين، تجلّت سماحته وإنصافه بأبهى صورها. فقد رفض استخدام مصطلح “أهل الذمة” في وصف المسيحيين، ورأى أنه مصطلحٌ تاريخي تجاوزه العصر، ولا ينسجم مع مبدأ المواطنة الكاملة. كما أفتى بجواز تهنئة المسيحيين بأعيادهم، بل وحثّ عليها، مؤكدًا أن البرّ والقسط هما أساس العلاقة، لا العقيدة، وقال بوضوح: “هم إخوة في الوطن، نشاركهم أفراحهم، ونقف معهم في أحزانهم، ولا فرق بين مسلم ومسيحي في حقٍّ أو كرامة.”
وكانت علاقته بالبابا تواضروس الثاني مثالًا على الشراكة الوطنية الحقيقية، كما كانت صداقته مع البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، إحدى أبرز علامات التلاقي الحضاري والديني في العصر الحديث، وقد تُوّجت بتوقيع وثيقة “الأخوّة الإنسانية” في أبو ظبي عام 2019، التي اعتُمدت مرجعًا عالميًّا للتسامح، ومواجهة الكراهية والعنصرية، ودعوة للتعايش بين الشعوب.
أما خطاب الإمام الأكبر في المؤتمرات واللقاءات الدولية، فليس خطابًا عابرًا، بل وثيقة فكرية موثّقة، تُبنى على تأصيل علمي دقيق، وتُعبّر عن فهمٍ واعٍ للواقع، وتُصاغ بلغةٍ فصيحة رصينة، تجمع بين بلاغة الأزهر وصدق الموقف، مما يجعلها مصدر إلهام للأكاديميين والمفكرين وطلاب العلم والدعاة.
وقد حافظ الإمام على استقلالية الأزهر الشريف في أحلك الظروف، ورفض أن يكون تابعًا لجهة أو صوتًا لحزب، وأصرّ على أن يظل الأزهر مؤسسة وطنية جامعة، تنأى عن الاستقطاب، وتقوم بدورها في نشر الدين الوسطي الصحيح، دون مساومة أو تبعية. وكان يؤمن بأن الأزهر ملكٌ للأمة، لا لفئة ولا لمؤسسة، وأن مكانة الإمام لا تُقاس بالقرب من السلطة، بل بالثبات على المبدأ.
ولست أكتب هذا المقال تزلفًا أو طلبًا لمصلحة، فلست من المنتفعين، ولا من العاملين في مشيخة الأزهر، وإنما أكتبه إحقاقًا للحق، ووفاءً لعالِمٍ قلّ نظيره في هذا الزمان، وتقديرًا لرجلٍ جمع بين الفقه والخلق، وبين الزهد والهيبة، وبين التواضع والاستقلال، وبين الفكر الرصين والموقف النبيل.
إن شخصية الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب ليست مجرد سيرة يُتحدَّث عنها، بل مدرسةٌ في القيادة الدينية، ونموذجٌ في الصدق والتجرّد والاتزان. وهو جدير بأن يُروى للأجيال، ويُستشهد بمواقفه، وتُدرّس كلماته، وتُسجَّل رؤاه، لا من باب التبجيل، بل من باب التوثيق والامتنان.
نسأل الله أن يحفظه، وأن يُبارك في عمره، وأن يُثبّته على الحق، وأن يُجري الخير على يديه، وأن يبقى منارة هداية، وصوت حكمة، ورمزًا للوسطية والاعتدال.
وآخر الدعاء:
جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ورفع مقامه في الدنيا والآخرة، وأقرّ به أعين الأمة، وأبقاه ذخرًا للعلم والدين والوطن.