تُدار كرة القدم الحديثة بالعلم والأرقام، لكن البطولات المُجمَّعة، وعلى رأسها كأس أمم أفريقيا، تُدار أيضًا بعوامل إنسانية متقلبة لا تخضع للحسابات وحدها.
ففي الماما أفريقيا مباراة واحدة أو نقطة -تنقذك من الخروج من المجموعات-قادرة على قلب المشهد بالكامل، وتحقق أثر الفراشة لصناعة حالة نفسية قد تدفع منتخبًا إلى اللقب أو تُقصي آخر من الطريق.
البداية من بطولة 72
وبداية قصتنا في بطولة أمم أفريقيا 1972 عندما توجت الكونغو الغير مرشحة بالبطولة على على حساب منتخب مالي وكان ذلك بفضل آخر مبارة في دور المجموعات ضد السودان والتي صعدوا من خلالها وشقوا طريقهم للقب .
وقعت الكونغو في مجموعة زائير والمغرب والسودان .
وفي أول مباراة ضد المغرب تعادل الكونغو 1-1 وخسر في المباراة الثانية من زائير 2-0 ، ليتزيل حينها الكونغو المجموعة ويصبح مضطرا للفوز على السودان ليتأهل .
ومع انطلاق مباراة السودان ،أظهر الكونغولين وجها مغايرا تماما وفازوا 4-2 لتكون بداية حقيقة للفوز بالبطولة
ففي نصف النهائي واجه النمور أسود الكاميرون، المرشح الأقرب بالبطولة والدولة المستضيفة للبطولة ،ولكن تحدث المفاجأة وتضرب الكونغو موعدا في المباراة النهائية بعد إقصاء الكاميرون 1-0 .
وواجهت النمور منتخب مالي في النهائي وبعد التأخر بهدف ،قلب الكونغوليين النتيجة كما قلبوا حسابات البطولة بالفوز 3-2 وحصد اللقب ،ولكن الفضل في مباراة السودان التي عملت مفعول السحر .
هزيمة من مصر تسببت في أول ألقاب الكاميرون
ومن بطولة 72 لبطولة 84 ،وتحقيق الكاميرون اللقب الأول لهم في جيل تاريخي خرج بصعوبة من كأس العالم 82.
فبعد بداية مهزوزة وآداء لا يتناسب مع الأسود خسرت الكاميرون من مصر 1-0 بهدف من مارادونا النيل طاهر أبو زيد ،وفي المباراة الثانية كشرت عن أنيبها الأسود ضد توغو ،ولكن رغم ذلك كان صعودهم في محل شك .
فالجهة المقبلة ،تفوقت ساحل العاج في أولى مبارياتهم وخسرو من مصر بشق الأنفس ليشهد يوم 10 مارس 1984 مواجهة شرسة على الصعود بين الأفيال والأسود ،فتسلوى الاثنين في النقاط ،والتعادل لصالح الأفيال ،وتأزم الموقف .
وكما ذكرنا أن الحالة الإنسانية تأثيرها أقوى من أي شيئ ،وأن الأزمات لا تولد إلا أبطالا ،فظهر قائد ذاك الجيل التاريخي روجيه ميلا حاملا على كتفه منتخب بلاده صاعدا به من المجموعات،ليصعدوا ويواجه الجزائر ويتفوقوا بركلات الترجيح ومن ثم الفوز على نسور نيجيريا 3-1 لإعلان أن الأسود غير قابلة للترويض ،وقذيفة طاهر أبو زيد كانت بداية انطلاق لرفع أول الألقاب .
مكسب المجموعات ينصف المعلم 2006
ومن اول ألقاب الكاميرون للسطر الأول للمعلم حسن شحاته ،ففي عام 2006 وباستضافة مصر للبطولة ،لم يكن أكثر المتفائلين يحلم بتتويج مصر باللقب بل للوصول للنهائي أصلا ،وزاد الأمر تعقيدا بوقوع مصر في مجموعة الموت مع المغرب وليبيا والمرشح الأول للبطولة ،ساحل العاج .
حينها مصر كانت تمتلك جيلا رائعا ،سُمي فيما بعد بالجيل الذهبي لكن ما كان ينقصه حينها كانت الثقة وبناء شخصية لذاك الفريق .
في المباراة الأولى فازت مصر على ليبيا بثلاثية كما كان متوقع ،ولكن ضد المغرب ومع أول محطة متوسطة تعادل المنتخب سلبيا وسط جمهوره ،ليعم الشك قلوب أبناء المعلم حسن شحاته .
ويدخل المنتخب ضد ساحل العاج بدعوات المصريين ،والكثير من الشكوك ولكن بكاريزمة المعلم الطاغية ونظراته الواثقة ،وبالفعل يفوز المنتخب معنويا قبل ان يكون فنيا على الأفيال ،وتصبح تلك المباراة نقطة تحول وبداية لإحتكار القارة .

وبعدها شق المنتخب طريقه للنهائي وتحققت المعجزة بالفوز على الأفيال في الختام بركلات الترجيح ،في ليلة تسيد فيها اسم الحضري جميع صحف العالم ،وسطر المعلم حسن شحاته اسمه في التاريخ .
المفاجأة الأكبر.. زامبيا بطلا لإفريقيا
وليس المعلم وحده من سطر اسمه ،بل زامبيا احتكرت صفحة لنفسها في باب المعجزات بقيادة الفرنسي هيرفي رينارد
ففي عام 2012 وعلى عكس كل التوقعات ،تصدرت زامبيا مجموعتها على حساب السنغال وليبيا وغينيا ،ومن بعدها تكتسب زامبيا شخصية البطل وتصنع من نفسها بطلا بعيدا عن كل الترشيحات .\
ولم يكن الطريق سهلا كما يتخيل البعض ،بل انتصروا على غانا في نصف النهائي ،وبركلات الترجيح توجوا باللقب على حساب ساحل العاج .
من إقالة قريبة لنهائي البطولة
وعلى غير المعهود ،فليست كل الهزائم نهاية ،ففي عام 2021 وتحت قيادة كارلوس كيروش ،واجه الفراعنة منتخب نيجيريا في افتتاح البطولة ،وقدم المصريون آداء أسوأ ما يمكن ،لدرجة صدور تقارير تفيد بإقالة المدرب البرتغالي أثناء سير البطولة وبعد مباراة واحدة .
ولكن البدايات لم تعبر عن الخواتيم ،وأصبحت مواجهة نيجيريا هي نقطة انطلاق لنهائي البطولة ،وإقصاء كل المرشحيين من ضمنهم المستضيف ،إلى أن اصطدمت آمال الفراعنة وزحفهم للنهائي بقوة أسود السنغال وهزيمة مصر بركلات الترجيح .
ولكن كتبت تلك الانطلاقة بعد الهزيمة كواحدة من أعظم نقاط التحول وقوة روح المجموعة على العناصر الفردية .
من الهزيمة برباعية لمنصات التتويج
وأن كانت انطلاقة مصر واحدة من أعظم نقاط التحول ،فما فعلته ساحل العاج يعد من درب الجنون ولا يمكن وصفه بمقاييس علمية ولا منطقية .
فبعد الهزيمة من نيجيريا 1-0 ،ظن الجميع أن ذلك أسوأ ما يمكن أن يحدث للمستضيف ،ولكن جاءت الهزيمة من غينيا الاستوائية برباعية كالصاعقة على رؤوس الأفيال ونهاية كارثية لأحد المرشحين للبطولة .
ولكن شاءت الأقدار ،وبحسبة من المستحيل أن تنصف المستضيف كل هذا الانصاف ،تأهلت ساحل العاج كتالت للمجموعة ،ولكن خرجت من دائرة الترشيحات .
ولأن لا يوجد أخطر ممن عادوا من الموت ،وبعدما كانوا على شفا حفرة من الخروج ،وبتغيير المدير الفني ،أقصت الأفيال السنغال ومن ثم مالي والكنغوا ،ليصلوا للنهائي في مشهد أشبه من السحر .
وكعادة الدراما ،لا تنتهي القصة سالمة ،فتأخر الأفيال في النهائي ،وكادت تلك القصة الأسطورية أن تنتهي بدون السطر الأخير .
ولكن استمرارا للعائدين من الموت ،وبعد تعادل كيسي لساحل العاج ،خرج هالير بعد عودته من السرطان ليحرز هدف المكسب والفوز بالبطولة ،ليتلاقى هالير ومنتخبه في نقطة المستحيل ،وتكوين قصة درامية انتصر فيها البطل بعد أحداث من الصعب تصديقها .
لهذا نحب بطولة أفريقيا
وهكذا، لا تُحسم أمم أفريقيا دائمًا بالخطط المحكمة ولا بقيمة الأسماء على الورق، بل بتلك اللحظة الهشة التي يتغير فيها كل شيء؛ مباراة تُكسب في توقيت مستحيل، هزيمة تُوقظ فريقًا، أو موقف إنساني يعيد تشكيل الوعي قبل الأقدام.
في هذه البطولة، لفالفائز لا يكون الأقوى حسابيا ، ولكن تحويل الخوف إلى طاقة، والارتباك إلى هوية هو من يظفر في النهاية
لذلك تظل أمم أفريقيا مسابقة عصية على التوقع، لأن أبطالها لا يولدون من رحم المنطق وحده، بل من قلب الفوضى، حيث تُكتب البطولات بلغة البشر قبل أن تُسجل بلغة الأرقام.
