رئيس التحرير
محمود سعد الدين
NationalPostAuthority
الرئيسية حالا القائمة البحث
banquemisr

انتهى السحور الأخير بصرخة استغاثة من أقصر مسحراتي بمصر.. محمد مآمن يعشق مهنة أجداده ويخشى المجهول.. يتمنى أن يرزقه الله بقزم مثله يرث طبلته.. ويعيش في قلق مع نهاية رمضان: أبويا رفض يبيعني وبحلم بوظيفة

“المسحراتي”وجه رمضاني وفلكلور تراثي يحكي عبق التاريخ، لم يستطع تقلب الزمان أن يفصله عن اللوحة الفنية لشهر الصيام، التي لا تكتمل إلا بحضوره وهو يصول ويجول على قدميه، مرتديًا جلبابه وطاقيته، ضاربًا على طبلته، مرددًا عبارات متناسقة مفعمة بالحلاوة وبساطة الأسلوب، ليوقظ النائمين وينبه الساهرين بأن موعد السحور حان.

ويندر في أيامنا هذه أن نرى مسحراتيًا، فرغم أن المهنة بقيت أيقونة لرمضان على مدى قرون طويلة مضت، إلا أنها باتت تلفظ أنفاسًا متقطعة، وتخطو خطوات عرجاء غير ثابتة، وصلت إلى حد الترنح بين الزوال والبقاء، وقل شأنها وتأثيرها الفعلي، بسبب حالة التغريب السائدة في ظل غزو العولمة والتكنولوجيا لروح العصر، ما دفع أغلب المسحراتية إلى هجر مهنتهم والعزوف عنها، فيما ظلت قلة قليلة منهم تمتهنها.

ويكاد ينعدم تمامًا أن نرى مسحراتيًا قزمًا، لكن ها هو محمد ماَمن المسحراتي القزم صاحب الـ32 ربيعًا، يطوف بطبلته وعصويه، بعد انتصاف كل ليلة رمضانية، بين أزقة وحواري وشوارع قريته بني هلال بريف البحيرة شمالي مصر، مناديًا على الأطفال الذين ينتظرونه برزقه، ويرددون "عمو محمد بتاع الطبلة جه"، ويتفاعلون معه بشكل كبير، ويلتقطون الصور برفقته، وسط حالة من الفرحة والبهجة، في مشهد مغاير للمألوف.

"طلعت على وش الدنيا لقيت والدي بيشتغل مسحراتي، وخرجت معاه وهو بيسحر مرة واحدة ومكررتهاش؛ لأني كنت صغير وقتها وبخاف من الضلمة"، هكذا بدأ محمد سرد قصته لـ”بصراحة”، قبل أن يكمل: "اتوفى والدي لما كان عندي 11 سنة، وكملت والدتي مسيرته في المهنة عشان توفر لقمة العيش ليا أنا وإخواتي، وكنت مرافقها دايمًا، واستلمت الشغلانة بعدها، من 10 سنين تقريبًا، عشان أريحها من الشقا".

ويسترجع ماَمن ذكرياته قائلًا بنبرة صوت يملؤها الحنين للماضي: "زمان كانت الناس الكريمة الطيبة والحريم الكبار الفلاحينالأصل على أبوه، بيستنونا أنا وأمي بالسحور"، ثم يهز رأسه متذكرا الأيام الخوالي، مضيفًا: "فين الأيام دي! كانت أيام جميلة، وكان الأهالي بيدونا أجرنا من كحك وبسكوت العيد اَخر الشهر، ولو في حالة وفاة كان الأجر بيكون وقية رز أو درة أو غلة، أما أجري دلوقت ممكن يبقى فلوس أو كحك أو رز، مش بشترط حاجة معينة".

ويتابع: "سمعت من ناس كبار في بلدنا أن السيرك كان عايز يشتريني من والدي وأنا طفل صغير، لكنه خاف عليا ورفض وقال ده ضنايا وأول خلفتي وعمري ما أفرط فيه ولا أبيعه ولو بمال الدنيا"، مشيرًا إلى أنه سبق له أن عمل منذ سنوات في فرقة فنون شعبية بشرم الشيخ، و"اتنصب عليه"-بحسب تعبيره-، ولم يتقاضأجرًا جراء عمله، ما دفعه للعودة إلى قريته وصرف النظر عن هذا العمل.

ويواصل محمد ماَمن،حديثه بكلمات تفوح منها رائحة المحبة لمهنته، قائلًا: "قل تأثير المهنة عن زمان بسبب التطور وقليل إما تلاقي مسحراتي، بس هتفضل موجودة إن شاء الله، وهفضل مكمل فيها عشان ورثتها من والدي ووالدتي، أنا متجوز من 4 سنين، وكان عندي بنت واتوفت، وبتمنى ربنا يديني ولد قزم زيي، عشان يكمل الشغلانة بعدي، ويفرح الناس بالشهر والطاعة والصيام والزكاة".

ويزيد المسحراتي الثلاثيني الذي ورث المهنة عن أبويه: "كفاية أن الناس بيحبوني، ومن شدة محبتهم لقبوني بـ فاكهة البلد، وفي منهم مش بيتسحر غير لما أجي، وأطفال مش بتنام وبتعيط لو مشافونيش، وأهلهم بينادوني ويقولوا تعالى يا عمو محمد مستنيينك إحنا صاحيين".

وعن الطبلة، يقول المسحراتي ماَمن، إنه اشترى طبلته متوسطة الحجم التي يحملها على عنقه أثناء جولاته طيلة أيام الشهر الفضيل منذ بداية عمله في المهنة، واستغنى عن طبلة والده رغم احتفاظه بها، بسبب كبر حجمها الذي لا يتناسب مع صغر حجمه، موضحًا أن جلد طبلته يتشقق في بعض الأوقات، بسبب كثرة استخدامها وقوة ضربه وأطفال القرية عليها، ما يضطره لأخذها للمناخلي لإصلاح تلفها.

شيء من الإحساس بقلة الحيلة والرضا في اَن واحد، يرافقان كلمات الشاب وهو يقول: "بتمنى أطلع والدتي عمرة بس مش بأيدي، وأن يكون عندي بيت كويس أعيش فيه زي الناس مهي عايشة، بيتي أقل من البسيط، لكن راضي راضي راضي الحمد لله، أنا أحسن من غيري كتير"، مستكملًا بحزن: "وكمان نفسي في مشروع كويس أكل منه عيش؛ لأني بشتغل عند الناس باقي السنة، وإهانتهم وحشة وصعبة، واللي بيهيني مش أحسن مني".

"قدمت على وظيفة مرة وممشاش الحال ومفيش موافقة جت، وحاولت أقدم على معاش وجريت على الموضوع ده كذا مرة، ومحصلش نصيب ومتمش الموضوع ولا اكتمل، وكان بيكون في نوع من التنمر والسخرية والمعاملة السيئة من الموظفين عشان أنا قزم"، قالها المسحراتي وهو ينظر إلى الأرض في تعبير واضح عن الإحباط الشديد.

ويردف اَملًا أن يصل صوته للرئيس عبد الفتاح السيسي: "إحنا 180 ألف قزم في مصر، ولنا حقوق في بلدنا، نفسي يتوفر لنا شغل وسكن ومعاش، وناخد حقوقنا كاملة متكاملة زي أي مواطن وأكتر عشان لنا ظروف خاصة، بتمنى من ربنا أن كلامي ده يوصل للريس وأقابله وأقعد معاه وأقوله على الصعوبات اللي بتواجهنا في حياتنا عشان يراعينا وياخد باله مننا".

تم نسخ الرابط